مصر هي السيمفونية التي لا نمل مطلقاً من سماعها وتكرار مشاكلها والإصغاء إليها .. هي أروع لحن في الوجود مهما شذ هذا اللحن .. ومهما سرقوا منا آلات العزف .. ومهما حولوا عصا قائد الاوركسترا إلي خناجر تطعن في قلوبنا وتدميها .. فهي أبداً ودائماً مصر .. ولذلك لا نمل من التساؤل، ماذا يحدث في هذا الوطن؟ وما جوهر أزماته المتلاحقة؟ هل هو في الحكومة والسلطة الرسمية في تلك البلاد أم في قوى خارجية، أم في المواطن نفسه؟
نعم الطرف الثالث في قائمة اتهامي هو المواطن؟ قد يرد أحدكم (يا عم دا غلبان إيه اللي بأيده يعمله) .. والي آخر تلك الدفاعات التي سنسمعها .. أنا أتهم هذا المواطن بالسلبية تجاه كل ما يجري حوله .. السلبية في شعوره بهذا الوطن .. صار المصري كنزيل فندق، لا يهتم إن أفلس الفندق أو حتى تم عرضه للبيع .. المهم، أنه يعيش في غرفة ويأتيه الطعام يومياً .. هذا هو ببساطة إحساس المصريين بوطنهم الآن، إحساس مستأجر بشقة مفروشة. وتلك "كارثة" وأعني غياب الشعور بأننا مواطنين بمعنى الكلمة، أي أن نتوطن علي تلك الأراضي وكل ما يجري علي أرضها يهمنا بالدرجة الأولي .. وهنا يثار تساؤل آخر، متى فقدنا ذلك الإحساس ومن السبب في عزل المواطن عن وطنه؟ وأهمية السؤال هنا تكمن في كونه بقعة ضوء مبهرة قد تصيب البعض بالعمى المؤقت فيتصرف بغباء شديد، والأهم من السؤال هو الإجابة الصحيحة عليه، ومحاولة فهم لماذا ضلت القافلة طريقها وتسير الآن دون أفرادها الحقيقيين .. وأصبحت مثل قافلة ضلت هدفها في دروب الصحراء الشاسعة وهناك من يصر علي أن تظل في الضياع للأبد! ماذا حدث لنا كمصريين .. ومنذ متي ونحن مغيبون عن هذا الوطن؟ عندما تدقق النظر في تاريخنا الحديث، من السهل أن تعرف إن مصر (الوطن) قد تراجعت كثيراً أمام مصر (الأفراد)، وخاصةً بعد أحداث انتفاضة الخبز 18 و 19 يناير 1977. فعلي مدى سبعة وعشرين عاماً كان هناك عمليات تفكك وتحلل (مستمر وبانتظام) في كيان الدولة وتفتيت في سلطتها لمصلحة أفراد وجماعة بعينها .. دولة تتآكل مقابل أفراد يتعملقون .. سلطة الدولة تستخدم حسب الأهواء ورغبات البعض، بينما سلطة هؤلاء تتمدد بدون مانع أو قانون. وظهرت هذه الفئة من الأفراد أكثر ما ظهرت بعد عملية الانفتاح (سداح مداح على رأي أحمد بهاء الدين)، عندما اقتنص البعض فرص لم تكن متوفرة لغيرهم مستخدمين بذلك أموالهم وسلطاتهم، فاكتسبوا قدرات غير طبيعية حولتهم من مجرد أفراد إلي جماعات طفيلية متسلقة علي أعمدة النفاق، سواء بالمال أو بغيره، حولتهم إلي سياسيين ومتحكمين في مقدرات هذا الشعب وأعادت لنا نسبة 1% تتحكم في 99% من ثروات هذا الشعب .. والمشكلة أن هذه النسبة ليست لأفراد قادرين علي تحمل العبء عن هذا الوطن وتسيير أموره، بل هي لمجرد أفراد انتهازيين سيكونون هم أول من يهرب من السفينة عندما تأتيهم العاصفة. وقد تكرر هذا مؤخراً وخاصة في أزمة (الدقيق) عندما رفض أغلب رجال الأعمال استيراد كميات منه لأن ربحهم لن يكون كما هو معتاد .. غير عابئين بالشعب ولا باحتياجاته .. وبعدها أيضاً حدثت أزمة اللحوم السودانية التي أثبتت لي شخصياً مدى غباء الرأسمالية الحديثة الخالية من أي انتماء للوطن أو المواطن .. وقبل كل ذلك العشرات من رجال الأعمال الذين فروا بأموال البنوك .. عفواً، بأموال الشعب إلى الخارج عند أول منعطف غير مبالين باقتصاد البلد .. هؤلاء هم الأشخاص الذين أتهمهم بشكل مباشر في أنهم السبب في أغلب ما يمر به الشعب المصري .. وبين هؤلاء نقع نحن المصريين بين المطرقة والسندان، نبحث عن وطن يلملم شتاتنا وعن كرامة تداوي جراحنا وليتها تكفي .. وسيظل الحال ذلك حتى نفيق ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق